النيولبرالية تُحكم سيطرتها على العالم
رفيق لبجاوي، ألجيريا ووتش، 21 أبريل 2024
لقد أشارت الإدارة الاستبدادية المتسلطة لجائحة كوفيد بوضوح إلى الاتجاه الذي اختارته الأوليغارشية الغربية لضمان السيطرة على السكان ومراقبة المجتمعات خلال الظروف الاستثنائية. ولقد تم اختبار وتقييم التدابير القسرية المطبقة بهذه المناسبة في ضوء الأزمات الكبرى. ومنه فقد تم تقديم الوباء الفيروسي على أنه نتيجة لنوع بديل من العدوان في سياق التشكيك في العلاقات الدولية. إن الغرب، الذي بُني تاريخياً على الحرب، لا يستطيع أن يتصور بشكل فعّال تحولات التوازن العالمي على نحو يصب في غير صالحه من دون محاولة القيام برد عسكري. إن الحفاظ على حلف شمال الأطلسي، وتوسيع مكوناته، فضلاً عن مناطق تدخله، على الرغم من اختفاء عدوه الأساسي، الاتحاد السوفييتي، يشكل مؤشراً لا لبس فيه على التصرفات العدائية لدى قادته. وفي ضوء الصراعات الجارية بالفعل، وخاصة في أوكرانيا، والتصعيد الذي يرغب فيه القادة الغربيون علنا، فإن الملاحظة بأن أزمة كوفيد جعلت اصبحت مثل تدريب للإدارة وضع استثنائي أمرا ضروريا.
في الظاهر، ومنذ الأيام الأولى للوباء، تتابعت الإجراءات المهينة دون أي مرجعية مؤسسية، ودون مشاورات ديمقراطية، ودون أدنى مساءلة. وهكذا تم فرض نظام صارم بسرعة دون مناقشة حقيقية؛ تم من خلاله الإعلان عن حجر صحي صارم وحظر للتجول، تحت مراقبة الشرطة مصحوب بالتهديد بغرامات باهظة، دون نقاش. وعلى نفس النحو فقد ساد التعتيم التام أثناء توقيع العقود مع شركات الأدوية الكبرى.
تم تفويض الإدارة العليا للدول التي كانت تهتم سابقًا بواجهاتها المدنية رسميًا إلى الهياكل العسكرية، مثل مجلس الدفاع الذي يرأسه رئيس الدولة في فرنسا على سبيل المثال. وتشمل التدابير التي فرضتها سلطات الأمر الواقع هذه، المراقبة باستخدام الطائرات بدون طيار والالتزام بارتداء الأقنعة في الأماكن العامة وكذلك في أماكن العمل. وسيبقى مسجلا في الذاكرة الجماعية أن ترسانة القيود الجديدة هذه خلقت جوًا قمعيًا مشابهًا لأجواء ما قبل الحرب.
إن الإشارة إلى النزاع المسلح ليست من قبيل الصدفة، ألم يذكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حالة الحرب خلال تدخلاته الأولى في بداية الوباء؟ هل كانت الرسالة تهدف فقط إلى إحداث الصدمة في عقول الناس؟ أم أن هذه الكلمات كانت تهدف إلى تكييف الرأي العام باستخدام ظروف نفسية مسبقة للتأسيس لحالة استثناء دائمة بطريقة خفية. وتظل الحقيقة أن الرسالة رغم كونها غير مباشرة، لم تكن مجرد حيلة لفظية؟
وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، قام رئيس وزراء كندا جاستن ترودو من جانبه، وبنفس الحركة، باستعمال أسلوب الترغيب والترهيب. في الواقع، اتخذت الحكومة الكندية قرارًا بتوفير دخل لجميع أولئك الذين فقدوا وظائفهم، وفي الوقت نفسه، فرضت حالة الطوارئ ضد سائقي الشاحنات الذين قاموا بغلق العاصمة سلميًا للاحتجاج على الإجراءات الرامية إلى احتواء انتشار الفيروس، ولا سيما فرض جواز السفر الصحي.
ولم تكتف السلطات الكندية، التي انخرطت في ديناميكية قمعية، بالقبض على قادة الحركة الاحتجاجية، بل قامت بإغلاق حساباتهم البنكية من خلال زعمها، بتوظيف وسائل الإعلام، بوجود تدخل أجنبي افتراضي (روسي أو صيني)، وهو الأمر الذي لم يتم إثباته قط.
وتعتبر هذه هي المرة الثانية في تاريخ البلاد التي يتم فيها فرض حالة الطوارئ. لقد تم إعلان حالة الطوارئ الأولى في أكتوبر 1970 من طرف بيير إليوت ترودو، أب رئيس الوزراء الحالي، بعد اختطاف شخصيتين من قِبَل حركة انفصالية مطالبة باستقلال مقاطعة كيبيك.
والتزم رئيس الوزراء الكندي خلال هذه الفترة بعقد مؤتمر صحفي يومي يتناول فيه تطورات الوضع الصحي. هنا أيضًا، سواء من حيث الشكل أو النبرة، كان التشابه مع طريقة الاتصال في زمان الحرب واضحًا لجميع مشاهدي مثل هكذا تمرين عسكري. ومن أجل تأكيد هذا الخيار العسكري وبدون أدنى شك، كان ضابطا رفيع المستوى في القوات المسلحة الكندية هو المسؤول عن الإدارة اللوجستية للتطعيم.
شكلت هذه التدابير الصارمة بشكل استثنائي في الواقع بدايات التوجه الاستبدادي للحكم الليبرالي الجديد الذي أُعيد النظر فيه. لقد اجتمع الطيف السياسي الكامل للدول الغربية التي تدعي أنها ديمقراطية، من اليسار إلى اليمين إلى الوسط، في إجماع مذهل خلف رئيس الدولة أو بالأحرى أمير الحرب. لقد صادق البرلمانيون على القوانين الواحدة تلو الأخرى التي قررتها القمة دون تردد. لم يكن هناك سوى عدد قليل جدًا من الأصوات المعارضة، وعندما تمكنت من اختراق جدار الصمت، تعرضت للتشهير على الفور من طرف جميع وسائل الإعلام تقريبًا. في البلدان التي تتمتع بحرية التعبير حيث يكون الحق في النقاش المتناقض والاختلاف في الرأي محل إعجاب، فإن هذا التجانس المفاجئ کان مدهشا.
هذا التطور الملحوظ نحو سلطة تنفيذية مركزية وهرمية دون معارضة حدث دون استنكار بفضل سهولة انقياد وسائل الإعلام الرئيسية وقدرتها الاستثنائية على تشكيل الرأي العام. في الواقع، تم تنسيق هذه الحملة الاستبدادية من طرف جهاز إعلامي منضبط لا مثيل له، وهو عبارة عن تطبيق غير نقدي لتوجيهات أمراء الحرب المسؤولين عن مطابقة الرأي العام مع العقيدة الرسمية.
ولقد تمت تعبئة موارد كبيرة لتقديم قرارات الحكومة على أنها غير قابلة للنقاش. ولهذا الغرض فقد تم احتكار أجهزة التلفزيون من طرف حشود من الخبراء المسؤولين عن تنشيط البرامج التي يتم فيها استغلال العلم بأبعاده الأكثر تعقيدًا بشكل مستمر للتشكيك في أي خطاب بديل. وهكذا ظهر علم الفيروسات، الذي عادة ما يكون من اختصاص العلماء المتخصصين، وكأنه مجا ل مُتاح للجميع، ولا سيما لمقدمي البرامج التلفزيونية والمعلقين الذين تقمصوا دور الصوت الشعبي. إن التحريض الإعلامي المتعدد الأوجه، من خلال منع أي نقاش هادئ، مستنير ومسؤول، ساهم إلى حد كبير في خلق ستار من الدخان الكثيف حول القضايا المتعددة لأزمة غير مسبوقة…
لقاح الذُعر
بعد إقرار إلزامية التطعيم، سرعان ما ساد جو مثقل بالإكراه. أما الأصوات التي عارضت هذا الإجراء أو التي رفضت اللقاح فقد اتُهمت بـ « التآمر » والتواطؤ في التقتيل. فأولئك الذين اعترضوا على اللقاح أصبحوا معرضين لخطر فقدان وظائفهم، ومنعهم من السفر وحتى منعهم من دخول الأماكن العامة. لقد تم تقديم أولئك الذين رفضوا العقيدة الرسمية على أنهم منبوذون أو غرباء على قطيعة تامة مع العلم والمجتمع.
وفي جو مليء بالقلق، تم تخزين كمية هائلة من اللقاحات بعشرات المليارات من الدولارات من طرف شركات الأدوية العملاقة في ظل غموض تام. وفي تعبير واضح عن الأنانية والانعدام التام للتضامن، استفادت المجتمعات الغربية الغنية من أولوية الوصول إلى اللقاحات، مع ترك سكان البلدان الفقيرة لمصيرهم المحتوم.
وفي الواقع فإن أجواء الذعر، التي وصلت في بعض الأحيان إلى حالة من الهوس الجماعي، شجعت وبررت سباقاً مجنوناً للحصول على اللقاح، وهو ما كان كذلك مسرحاً لمعركة سياسية تجارية عالمية تم من خلالها القضاء على كل منافسة حقيقية من المنتجين غير الغربيين. وهكذا، وبدون أي حجة أخرى سوى الازدراء، تم استبعاد اللقاحات الصينية أو الروسية أو الإيرانية أو الكوبية من إجمالي العرض في دول مجموعة السبع. لقد وجهت اليد « الخفية » للسوق العالمية ضربة قاتلة، ليس فقط للتجارة الحرة والمنافسة، بل وأيضاً للتضامن الدولي.
وفي تصعيد ديماغوجي، واصلت وسائل الإعلام الغربية وكتائب الخبراء التابعة لها انتقاد اللقاحات الصينية والروسية، التي تم تقديمها على أنها غير فعالة أو حتى خطيرة، رغم أن هذه المنتجات قد تم اعتمادها من طرف منظمة الصحة العالمية. ولم تكن هذه الحملة مجرد تعبير عن المواجهة الجيوسياسية، بل كانت في المقام الأول مسألة تشكيك في المنافسة بشكل جذري والتي تضر بمصالح شركات الأدوية الغربية الكبرى. وهكذا، فقد احتل سيل من الدراسات والمقالات والوثائق الإحصائية التي تزعم إثبات عدم فعالية هذه اللقاحات « الغريبة » الصفحات الأولى من الصحف « الجادة ». وكان لا بد من إقناع السكان المرتبكين بأن اللقاحات « المتحضرة »، خاصة تلك المصنعة في دول مجموعة السبع، هي الوحيدة القادرة على القضاء على هذا الوباء.
وفي المسار السريع للأحداث، لم يكن التضامن الدولي يذكر إلا بالكاد؛ وكانت كل دولة تبحث عن مصالحها الخاصة وفقط، حتى داخل الاتحاد الأوروبي. ولم يؤثر الوباء بأي حال من الأحوال على تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين. ولا يسعنا في هذا الصدد إلا أن نذكر رفض صندوق النقد الدولي منح قرض بقيمة خمس مليارات دولار لإيران، لتمكين هذا البلد المتضرر بشدة من العقوبات الغربية، من الحصول على معدات طبية طارئة، خاصة أجهزة التنفس.
وفي نفس التسلسل المهين، كيف لا يمكننا أن نذكر سلوك إسرائيل الدنيء تجاه الفلسطينيين؟ وبينما كانت السلطات في تل أبيب تتفاخر بأنها نجحت في تطعيم نصف سكانها في وقت قياسي بفضل اتفاقية مع شركتي الأدوية العملاقتين فايزر وموديرنا، تم تجاهل السكان الفلسطينيين، الخاضعين للاستعمار. وفي مواجهة الاستنكار الدولي، ذهبت الدولة الاستعمارية إلى حد محاولة التخلص من اللقاح عن طريق نقل مليون جرعة لقاح على وشك انتهاء صلاحيتها إلى السلطة الفلسطينية.
ظاهرة أوبر النيوليبرالية، ذلك الجانب المظلم للثورة الرقمية
لقد حفزت أزمة كوفيد بشكل واضح تطوير وتعميم استخدام التقنيات الرقمية. سواء تعلق الامر باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي أو منصات تقديم الخدمات أو لمقدمي الخدمات على منصات تبادل الفيديو، فإن هذا التسلسل التاريخي يعتبر وبدون أدنى شك بمثابة الثورة الصناعية، وله عواقب جد مهمة على الظروف المعيشية للبشر. وهذه العواقب ليست إيجابية فقط من حيث أنها تسهل تبادل المعرفة ونشرها. إن التوظيف الرأسمالي للتكنولوجيا الرقمية كأداة لمضاعفة الربح واستغلال العمال ينتج عنه صدمات اجتماعية حقيقية. وهكذا، أصبح العمل عن بعد، الذي كانت آثار غزو الشركات للمجال الخاص هائلة وضارة، مؤسساتيًا واستمر إلى ما بعد الفترات الحرجة عندما أصبحت الأنشطة « عن بعد » ضرورة لا تقبل الجدل.
وبفضل الحجر، شهدت المنصات الافتراضية، مثل إير بي إن بي Airbnb وأوبر Uber و تيك توك TikTok و يوتوب YouTube وغيرها الكثير، توسعًا متسارعًا، وتحولت إلى قوى مالية عالمية، مما أدى إلى تغييرات في أشكال تبادل الخدمات والعلاقات الاجتماعية، ولا سيما العلاقات بين أصحاب العمل والموظفين. في الواقع، تستجيب هذه المنصات الافتراضية للطلب على الخدمات وتوظف الأفراد في بيئة مجردة من المادة تمامًا. إن العلاقة الكلاسيكية بين الشركة والعامل تختفي لصالح علاقة تعاقدية فضفاضة للغاية وغير إنسانية، خارج العمل بأجر ولا تقدم أي ضمان للعمال. هذه المراكز الافتراضية التي ليس لها أي وجود مادي حقيقي تستغل اليوم ملايين الأشخاص في جميع أنحاء الكوكب، في سرية تامة تقريبًا.
يكشف وضع عمال التوصيل المتعاقدين مع منصة أوبر عن العلاقات الاجتماعية الجديدة التي فرضتها النيوليبرالية. ولكي يتم دمجك في نظام الخدمة هذا، ما عليك سوى تنزيل التطبيق على هاتفك الذكي وإرسال صورتك وبعض المعلومات الشخصية عنك وعن السيارة التي تريد استعمالها. بعد بضع نقرات وفي غضون ساعات قليلة، ستصبح سائقًا أو عامل توصيل لدى أوبر. لم يلتق « الموظف » مطلقًا بممثل الشركة التي لا يعتبر موظفًا فيها ولكنه مستخدم بسيط لمنصة تكنولوجية. تقوم المنصة بتخصيص المهام والدفع لهذا « الموظف » من خلال تخصيص جزء من المعاملة المتفق عليها مع العميل مباشرةً إلى حسابه المصرفي. عندما يبدأ هذا المستخدم الجديد في العمل، فإن التطبيق هو الذي يقوم بتسوية الجزء الخاص به من المعاملة في حسابه البنكي. وباستخدام أداة عمله الخاصة، سواء سيارته الخاصة أو دراجته الخاصة، يقوم بإنجاز مهمته.
وبالتالي فإن « الصناعة » الرقمية تنتج على نطاق واسع فئة جديدة من العمال المعزولين. وفي وضع أكثر خطورة من وضع الموظفين الذين يعملون عن بعد، يقوم هؤلاء العمال بمهامهم بشكل فردي لا يتسنى فيه حتى التعرف على زملاء لهم لم يلتقوا بهم أبدا. لكن بالنسبة للنيوليبرالية المولعة بالألفاظ المستحدثة والغامضة، فإن الأمر لا يتعلق بعمال غير مستقرين ومنعزلين، بل بالأحرى ب « عاملين لحسابهم الخاص ».
تشمل تعميم عملية أوبر في العالم مجموعة كاملة من الخدمات وتؤثر بشكل مباشر على الحياة اليومية للمواطنين. وبالتالي، فإن الوساطة التي تقدمها شركة إير بي إن ب Airbnb هي السبب وراء تفاقم أزمة المساكن على مستوى العالم. وتؤكد العديد من المقالات والتقارير الواردة من الصحافة العالمية وجود وضع غير مسبوق له آثار اجتماعية كبيرة. وهكذا، في فلورنسا، وهي وجهة سياحية ثقافية مهمة جدًا في إيطاليا، فمن غير المألوف أن تكون المباني بأكملها في وسط المدينة مشغولة بشكل شبه حصري من طرف سكان غير مقيمين. لقد أدت إيجارات إير بي إن بي Airbnb، التي تعد أكثر ربحية للمالكين، إلى طرد سكان المراكز الحضرية. ولقد لوحظت نفس الظاهرة في مدن أخرى حول العالم. وهكذا، في إسبانيا، وفي برشلونة ومالقة على وجه الخصوص، شكل المواطنون تنظيمات للتنديد بسيطرة نظام إير بي إن بي Airbnb على الإسكان، مما يجعل العقارات غير متاحة لسكان المدينة الذين أجبروا على الهجرة إلى الضواحي البعيدة بشكل متزايد.
إن الحضارة الرقمية النيوليبرالية هي في الواقع حضارة الانقسامات الاجتماعية. يتم تعزيز الهيمنة التي تخدم مصالح الفئات الأكثر ثراء من خلال تفتيت عالم التشغيل، حيث لا ينضم الموظفون الذين يعملون من منازلهم والذين لا يبرحون هواتفهم الذكية أمام شاشة الكمبيوتر إلى النقابات تمامًا مثل السائقين وعمال التوصيل « المستخدمين في أوبر ».
في الواقع، فإن التوجهات الاستبدادية لليبرالية الجديدة تشجعت بفضل التراجع الواضح للغاية في تأثير الهيئات الوسيطة، ولا سيما النقابات التي يتآكل وزنها السياسي وقدراتها التفاوضية باستمرار.
نهاية نظام تائه
إن الأحداث السياسية والاجتماعية المختلفة التي شهدتها الديمقراطيات الليبرالية في السنوات الأخيرة، ولا سيما الاحتجاجات الشعبية التي غذتها الهوة المذهلة في عدم المساواة واتساع نطاق عدم الاستقرار، تظهر بوضوح أن الأوليغارشية الغربية، متمسكة أكثر من أي وقت مضى بمنطق الاستيلاء المفترس على الثروة لأنها لم تعد قادرة على تقديم آفاق جديدة لسكانها، وخاصة للشباب المحكوم عليهم بالعيش في ظروف أقل ملاءمة بكثير من ظروف كبار السن.
بعد أن اصطدم أسلوب الحياة الأمريكي (وبالمناسبة « الحديقة الشهيرة المحاطة بغابة » كما وصفها جوزيف بوريل، رئيس الدبلوماسية الأوروبية) بجدار الواقع الوحشي لليبرالية الجديدة، لم يعد هناك نقص في المهيمنة لم يتوانى المهيمنون إلى ايجاد وسائل للقضاء على الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والاحتجاج على نظام قائم يضمن لهم الحفاظ على نفوذهم على الدول، مهما كان الثمن. ولهذا فلقد تم خنق الإضرابات الاجتماعية، ومُنعت التعبئة، وقُمِعت المظاهرات، واستخدمت ترسانة قانونية سالبة للحريات، للتتماشى مع الحياة السياسية الغربية. لقد اُستخدمت كافة الوسائل لكبت الاحتجاجات. وفي فرنسا، كان القمع الوحشي غير العادي لحركة السترات الصفراء بمثابة المثال الحي للمسار الأمني الذي انتهجته الليبرالية الجديدة في الإدارة الاجتماعية لتلك الأزمة.
وقد ترافق التوجه القمعي للسلطة التنفيذية الفرنسية مع اللجوء الممنهج إلى المادة الشهيرة 49.3 من الدستور التي تضع حدا لجميع المناقشات البرلمانية حول أي مشروع قانون حكومي. وفي عام 2023، استخدمت الحكومة الفرنسية المادة 49.3 كسلاح 23 مرة.
ويستند هذا اللجوء إلى الاستبداد إلى استراتيجية التضليل السياسي التي تهدف إلى تحويل الإحباط الاجتماعي والسخط نحو أهداف يسهل الوصول إليها أكثر من تلك المسؤولة فعلياً عن النكسات الديمقراطية، والمأزق الاقتصادي، ونهاية دولة الرفاهية. إن العرض السياسي التقليدي للأوليغارشية في مواجهة الاحتجاجات المتصاعدة هو في حد ذاته تحول عنصري. فالسكان من أصل غير أوروبي، وخاصة المسلمين، هم الهدف الذي تحدده وسائل الإعلام المهيمنة بلا كلل أوملل. إن توجيه الغضب الشعبي نحو عدو داخلي يمكن التعرف عليه بسهولة، وغالبًا ما يكون في أسفل السلم الاجتماعي، هو المحور الدعائي الذي تم تنفيذه لعدة عقود. وغالبا ماتُتهم هذه الفئات بتقويض أسس المجتمعات المٌضِيفة، كونها مسؤولة عن انعدام الأمن والبطالة بينما تستفيد بشكل غير شرعي من المزايا الاجتماعية التي تقدمها دولة الرفاهية.
لأكثر من ثلاثين عامًا، ظلت شماعة الهجرة المتهمة بارتكاب جميع الجرائم، والتي تم تقديمها بطريقة مضللة على أنها ظاهرة لا يمكن السيطرة عليه تهدد باجتياح البلدان المغزوة، موضع التلويح من طرف الدوائر السياسية المدعومة علنًا من قِبل الأوليغارشية الغربية. ويتجلى ذلك دون أي شك على السيطرة على وسائل الإعلام، واحتكارات القلة التي تسيطر عليها مجموعات خاصة مدعومة من طرف دول، والتي تعرض توجهاتها الشعبوية والعنصرية دون قيد.
من اللنيوليبرالية إلى اللنيوفاشية
منذ سقوط الاتحاد السوفييتي واختفاء شبح الشيوعية، ظل الغرب يبحث عن عدو بديل. يبدو أن خلق العدو المُتعدد الذي وصفته الدعاية الغربية هو ذلك الطابور الخامس من المهاجرين « الإسلاميين » الذين هم غير قابلين للاندماج والمرتبطين بقوى أجنبية معادية وعدوانية، مثل روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، الراغبة في تجريد الغرب المحترم للحريات والسلم، من دوره العالمي. يتم تنفيذ هذا السرد الأساسي بكل عزيمة من طرف تيارات مختلفة، قومية أو جمهورية أو فاشية جديدة، ورثة لأسوأ النماذج السياسية الأوروبية، والتي تعيد بناء هيمنتها الانتخابية بدعم حاسم من الأوليغارشية، كما حدث بالأمس.
ولكن، بقدر ما يتمتع به الغربيون من سجل سياسي بليغ، فإن الانجراف الاستبدادي الواضح لدى الغربيين، والذي يمكن أن يلاحظه الرأي العام الدولي، يشوه موقفهم كمدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبالتالي فإن الانتقادات الموجهة إلى « الديكتاتوريات الشرقية » ليس لها تأثير يذكر على المجتمعات التي لديها معرفة تاريخية، مؤلمة في كثير من الأحيان، عن القمع الذي تتعرض له مجموعة من البلدان والتي كان هذا القمع سببا في ازدهار الغرب إلى حد كبير والقائم على النهب الإمبراطوري.
تتسارع تحولات النيوليبرالية نحو شكل من أشكال الاستبداد الواضح بمعدل اتساع الفجوات الاجتماعية داخل أراضيها الأصلية والأزمات الدولية التي تتحمل مسؤوليتها. ومن وجهة النظر هذه، تشكل الحرب الاستعمارية التي شنت ضد الشعب الفلسطيني خطوة حاسمة في السيطرة على النقاش العام. تشكل الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة مارقة في غزة معلما هاما للغاية في فرض خط سياسي مؤيد لإسرائيل وتكميم أفواه كل تعبير يطرح أفكارا متناقضة أو بديلة. تحاول الأنظمة الغربية فرض صورة مزيفة للوضع في فلسطين المحتلة من خلال ملاءمة أجهزتها الإعلامية بشكل علني مع النظريات الاستعمارية.
في فلسطين كما في أماكن أخرى، فإن الروايات الرسمية بعيدة كل البعد عن أن تتوافق مع حقائق إنكار الحقوق والعنف الاستعماري، والمغامرات العسكرية الإمبريالية، والغزوات تحت ذرائع لا أساس لها على الإطلاق، والتفجيرات « الديمقراطية » التي تتابعت في تسلسل متواصل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إن الطبقات السياسية في الدول المستعمرة سابقًا بعيدة كل البعد عن تطهير تاريخها وإلغاء ثقافة الهيمنة والقمع.
وهكذا يبدو من خلال الصراعات التي يشهدها عالم دائم الحركة أن الغرب، بصفته قلب النموذج الليبرالي الجديد، يتراجع نحو ظهور وقبول أحزاب اليمين المتطرف. وهذا بالفعل نضج أيديولوجي طويل المدى تم تحديده وتنفيذه منذ بداية التسعينيات. إن هذه التيارات الفاشية أو النازية الجديدة بشكل علني، والتي هي بالفعل تتحكم في السلطة في أوروبا، أو على وشك أن تكون كذلك، هي التي تتمثل مهمتها في قمع الاحتجاجات الداخلية ضد الرأسمالية البيضاء وضمان استمرار هيمنتها العالمية في مواجهة أقطاب سياسية واقتصادية جديدة.