الانقلاب في النيجر وفخ التدخل العسكري

ع.ت. ألجيريا ووتش في 20 أغسطس 2023

أربعة أسئلة موجهة إلى الأستاذ عمر بن درة

كيف يمكن أن نفهم الأحداث الأخيرة في النيجر في ظل التحولات التي تمس النظام العالمي؟

إن الوضع السياسي والأمني ​​في منطقة الساحل والصحراء، وما وراءهما إلى غاية غرب افريقيا، يتحدد اليوم بموجة الصدمة التي خلفتها الإطاحة بمحمد بازوم، رئيس دولة النيجر. إن تأثير هذا الانقلاب يتجاوز بكثير تلك التي سببها الانقلابان في مالي وبوركينا فاسو. لقد أثار انقلاب 26 يوليو 2023، الذي نفذه الحرس الرئاسي ثم أقرته القيادة العسكرية بأكملها في النيجر، موجة واسعة من الاستنكار غير المسبوق في منطقة معروفة بعدد لا يحصى من الانقلابات والانتهاكات الدستورية. وهذا بطبيعة الحال يشكل ضربة خطيرة لترسيخ دولة القانون في بلد كان منذ استقلاله الرسمي في عام 1960 بشكل متواصل مستعمرة فرنسية جديدة.

ومن وجهة النظر هذه، يجب إدانته باعتباره اعتداءً على التعبير القانوني لشعب النيجر ويجب مطالبة السلطات العسكرية بإعادة السلطة إلى المدنيين في أسرع وقت ممكن بطريقة غير عنيفة ومنظمّة وديمقراطية. وهذا ليس موقفاً أخلاقياً بحتاً أو أمراً رسمياً، بل هو ضرورة سياسية تنبع من النظرة النقدية لتاريخ القارة منذ الاستقلال بقدر ما تنبع من الوضع الاقتصادي والاجتماعي في النيجر. نادراً ما يؤدي استيلاء الجيش على السلطة إلى التقدم أو التطور أو أخلقة الحياة السياسية. في هذا البلد الشاسع من منطقة الساحل، لا يزال سجل الدكتاتورية الطويلة ( أكثر من ثلاثة عشر عامًا) للجنرال سيني كونتشي محفورا في ذاكرة الجميع. لا تؤدي هذه الانقلابات العسكرية، في غالب الأحيان، إلا إلى تراجع مكلف للغاية بالنسبة للدول التي تقع ضحية لها.

ولكن سواء كان هناك تلاعب أم لا، فقد لاحظ كافة المراقبين وجود دعم شعبي حقيقي للانقلابيين في النيجر. هذا الانقلاب، الذي تم تنسيقه على الأرجح مع بعض القوى السياسية، وربما بعد التشاور مع الحليف الأمريكي، يتميز عن الانقلابات التي سبقته بالرغبة الواضحة للغاية في التخلص من الوجود الفرنسي العسكري والاقتصادي. ومن الجدير بالذكر من هذا المنطلق أنه على عكس الانقلابين في مالي وبوركينا فاسو، اللذين نظمهما ونفذهما ضباط شباب، فإن المجلس الوطني لحماية الوطن يرأسه جنرالات يقودون الجيش منذ عدة سنوات…

وتبقى الحقيقة أن المجلس الوطني لحماية الوطن ينحاز إلى المواقف المناهضة للاستعمار للطغمة العسكرية في كل من مالي وبوركينا فاسو وفي سياق عالمي يفضي إلى التشكيك في « القواعد » التي فرضها وكلاء الاستعمار السابقون الذين يتسمون بحديثهم المزدوج والذي تم اليوم فك شفرته تماما من خلال الآراء الافريقية. مما لا شك فيه أن الوصول إلى المعلومات، الذي تم توسيعه وإضفاء الطابع الديمقراطي عليه بفضل التكنولوجيات الرقمية، قد عجل بالوعي بالطبيعة الهرمية والوحشية وغير العادلة وغير المتكافئة للنظام العالمي.

وبالتالي، فبعيداً عن ماضيها الاستعماري والانتهاكات الحالية للإفريقيا الفرنسية، تعرضت سمعة فرنسا التي صاغتها شبكات التواصل الاجتماعي وصحافة الإنترنت، لعدة سنوات، لتشويه خطير. إن شباب القارة الإفريقية، الذين يتواصلون وينشطون على نطاق واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، يدركون جيدًا تصوير الأفارقة في وسائل الإعلام الفرنسية ويعرفون المعاملة المخصصة للأقليات غير البيضاء من طرف مؤسسات هذا البلد. إن الإدارة القاسية للمهاجرين، والإدارة العنيفة والمُميتة في كثير من الأحيان للشباب من أصل أفريقي من طرف جمهورية تَحِن بشكل متزايد إلى ماضيها الاستعماري المُستبد، تلحق ضررًا أكبر بكثير بصورة فرنسا في الرأي الإفريقي أكثر من أي دعاية تُروجها البلدان المنافسة. ويجب أن نضيف إلى ذلك سخط الرأي العام الإفريقي الواضح في مواجهة علاقة الهيمنة التي أقرتها طبقة من السلطة تم تثبيتها وحمايتها من طرف العواصم الاستعمارية السابقة.

إن الموقع الجغرافي للنيجر، هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 23 مليون نسمة ويشهد نموا سكانيا سريعا، أي ضِعف مساحة فرنسا، يجعل منه دولة محورية بين غرب وشرق افريقيا، وافريقيا الوسطى والمغرب العربي. تتجلى أهمية البلاد بقوة في موقعها كمنتج رئيسي لليورانيوم يتمتع بإمكانات هائلة، تم تحديدها، ولكن لا تزال غير مستغلة إلى حد كبير. وبالفعل، بالإضافة إلى وجود موارد معدنية وفيرة مثل الذهب والحديد والمنغنيز وغيرها، فقد خَلُصت الدراسات الجيولوجية الأمريكية إلى وجود مخزونات كبيرة للغاية من النفط والغاز الطبيعي يمكن أن تجعل من النيجر الحدود الجديدة للطاقة الأحفورية. لم يخطئ الأمريكيون في ذلك من خلال إنشاء موطئ قدم واضح بشكل متزايد في البلاد ومن خلال تطوير سياسة دعم لشركات النفط الخاصة بهم تحت ستار المساعدات التنموية والتعاون، وتعد مبادرة عموم الساحل، في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أحسن دليل على هذا. إن المصالح الأمريكية القائمة على تعزيز المصالح المدروسة جيدًا وعلى مكافحة الإرهاب لها هدف طبيعي يتمثل في مواجهة التوسع الصيني، الذي تساهم ديناميكيته الاقتصادية في التشكيك في النظام النيوكولونيالي المتجمد في أشكال الهيمنة التي أكل عليها الدهر وشرب.

ومن وجهة النظر هذه، فإن النيجر تُعَد مسرحا يكشف بشكل كبير عن مدى النهب النيوكولونيالي. ولا تزال هذه الدولة، التي تزود الجمهورية الفرنسية بجزء كبير من وقودها النووي منذ عام 1975 عبر مُجمع أورانو القابضة (أريفا سابقا)، واحدة من ثلاث أو أربع دول من أفقر البلدان في العالم. وتعتمد النيجر في إمداداتها من الكهرباء على جارتها نيجيريا، التي لم تتردد في قطع هذه المادة الحيوية بعد الانقلاب مباشرة.

  1. هل بلدان القارة الإفريقية محكوم عليها البقاء إلى الأبد مجرد بلدان منتجة ومصدرة للمواد الخام التي تباع بأسعار زهيدة؟ وكيف تفسر هذا الاستغلال الدائم والمتواصل الذي لا يؤدي أبداً إلى صناعات تحويلية محلية؟

خلال خمسين عاما من التواجد والأرباح الطائلة، لم يؤد استغلال اليورانيوم إلى الاستثمار في أي قطاع حيوي يعود بالنفع على سكان النيجر. فمن المفارقات أن اليورانيوم النيجيري الذي يستخدم لإنتاج جزء كبير من الكهرباء في فرنسا يتم استخراجه من بلد محكوم عليه بالحرمان من هذه المادة الحيوية… وبعيدًا عن كونه يعود بالفائدة على المجتمع النيجيري، فإن هذا المورد المستخرج في ظروف غير مسؤولة، مع تجاهل صارخ لحياة وصحة السكان، والذي سيؤدي حتما إلى أضرار دائمة وتلوث كارثي.

وفي خضم التهديدات والتصريحات العسكرية، فإنه من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن دعاة الحرب في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا بسخط انتقائي لم يتمكنوا قط من التعبئة الفعالة ضد العصابات المسلحة العاملة في المنطقة مثل تنظيم القاعدة في المغرب العربي وبوكو حرام وجماعات الجريمة المنظمة. إن الذريعة التي يقدمها بعض أعضاء المنظمة الإقليمية « لاستعادة النظام الدستوري » ليست في محلها على الإطلاق من جانب القادة الذين وصلوا إلى السلطة على ظهور الدبابات الأجنبية أو بالتلاعب علنًا بدساتيرهم للبقاء في السلطة إلى الأبد. فهل كان بوسع باريس، التي لم تعد قادرة على التدخل بشكل مباشر وعلني، أن تضمن لهذه الدول ذات الهياكل الهشة دعمها العملياتي؟

ومع ذلك، فإن احتمالات التورط في صراع دموي وما يصاحب ذلك من اتساع المناطق الخارجة عن القانون مرتفعة للغاية بحيث لا يمكن تجاهلها، وخاصة داخل أوساط دعاة الحرب. إن الكسور العديدة التي تمر بها جميع بلدان المنطقة يمكن أن تنفتح من جديد بشكل مؤلم خلال حملة عسكرية والتي لن تكون بدون شك بمثابة رحلة استجمامية قصيرة. إن الموقف الداعي إلى التدخل العسكري الذي تتخذه المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، غير المعقول والمنفصل عن الواقع، يصعب تبريره على المستوى العسكري البحت ولا يمكن الدفاع عنه على المستوى الأخلاقي والقانوني. وهذا في حد ذاته ليس أكثر ولا أقل من مجرد تدخل في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة. إن التهديدات بالحرب غير مقبولة مثلها مثل العقوبات التي تستهدف بشكل عشوائي السكان المستضعفين.

ومع ذلك، فإن موقف المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا بعيد كل البعد عن اتخاذ موقف إجماع يخص القارة. إن الرفض الذي أعرب عنه الاتحاد الأفريقي في وقت متأخر لغزو النيجر يأتي دعماً للبلدان التي أدانت على الفور استخدام القوة من أجل استعادة مفترضة للنظام الدستوري. وبالإضافة إلى حلفائها في مالي وبوركينا فاسو، أعربت تشاد والجزائر بقوة عن معارضتهما لأي مغامرة عسكرية. وانضمت إلى ذلك الولايات المتحدة وروسيا.

وفي فرنسا نفسها، تعالت أصوات أكثر اعتدالاً لتسليط الضوء على مخاطر أي تدخل مسلح، سواء مباشرا أو غير مباشر، في ضوء الإخفاقات الفادحة للتدخلات السابقة المستندة إلى ذرائع « إنسانية » باسم « حق التدخل » غير المقبول. ومن المؤكد أنه لا يوجد حل عسكري خارجي لأزمة سياسية داخلية. ولا يمكن للحرب إلا أن تنتج آثارا مدمرة لن تقتصر على النيجر فحسب. وهذه هي النقطة المركزية للخلافات بين الجزائر والدول الأخرى، بما في ذلك حلفائها التقليديين، مع فرنسا.

وفي كل الأحوال، فإن الأمر متروك لشعب النيجر وحده، ونخبه السياسية والفكرية، لإيجاد حلول سياسية ومؤسساتية للأزمة التي خلفها انقلاب 23 يوليو 2023. ويتمثل دور الدول المجاورة والصديقة في هذا المنظور المتمثل في تعزيز كل ما يمكن أن يساهم في التوصل إلى حل سلمي يقبله أغلبية النيجريين.

كيف يمكن أن يؤثر الوضع في النيجر على علاقات الجزائر مع الأطراف الفاعلة من خارج القارة في الأزمة؟

فيما يتعلق بالنيجر، فإن فرنسا والجزائر، اللتين تَشْهد العلاقات بينهما تدهورا ملحوظا، تتبنيان مواقف متعارضة تماما. يدرك النظام الفرنسي بغضب خسارته السريعة لنفوذه فيما كان، منذ وقت ليس ببعيد، منطقة نفوذه الحصرية، وهو يدرس جميع الفرضيات حتى لا يفقد هيمنته في النيجر ليفقد بذلك مصدر إمداد استراتيجي لأجهزته النووية مدنية كانت أو عسكرية. وبالتالي نستطيع ان نفهم الضغوط التي تمارسها باريس على المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا من أجل التدخل العسكري في النيجر .

ومن الواضح أن الجزائر لا يمكنها إلا أن تعارض حربا أخرى على حدودها الجنوبية، مهما كان شكلها وشدتها. لذلك، يجب أن تستمر فترة فتور العلاقات الثنائية، بل وتزداد سوءًا، مع الصعود السياسي للتيارات اليمينية واليمينية المتطرفة والمعادية للعرب وللإسلام، والتي تتحدد قاعدتها الأيديولوجية والعنصرية والانتقامية إلى حد كبير بإرث حرب التحرير الجزائرية، الذي لا يزال حيا إلى اليوم.

إن الأزمة النيجرية تضع الجمهورية الفرنسية الخامسة، التي هي نفسها نتيجة لإعلان عسكري في عام 1958، في مواجهة بديل حاسم: الحفاظ على النهج ا النيوكولونيالي الجديد بأي ثمن بما يتماشى مع فرنسا الأفريقية التي لا تزال نشطة للغاية ،بتغيير سياستها بكل شجاعة من أجل علاقات أكثر توازنا واحتراما مع مستعمراتها الأفريقية السابقة. يناضل الكثيرون في فرنسا منذ سنوات من أجل إحداث تغيير جذري في العلاقة غير المتكافئة بين فرنسا ومستعمراتها، والتي تضر بالشعب الفرنسي، الذي يعتبر نفسه شريكا رغم أنفه في الإدارة المدمرة للقارة الافريقية.

والولايات المتحدة، التي ليس لها تاريخ استعماري في إفريقيا، تعلم ما يحتويه باطن الأرض في النيجر من خيرات، وتدرك جيدا بشكل عملي دور النيجر كمفترق طرق إقليمي. ومن خلال نسج علاقة كثيفة بشكل متزايد مع الجيش النيجيري، أقامت واشنطن ثلاث قواعد عسكرية مهمة للغاية هناك لأكثر من عقد من الزمن، وهي جزء من نظام استراتيجي(مع مركزي دعم رئيسيتين أخريين في جنوب النيجر). ) التي تشمل المغرب العربي وغرب افريقيا ومنطقة الساحل.

ولذلك، أخذت واشنطن الانقلاب على محمل الجد، وكانت على علم مسبق به بلا شك، فأرسلت إلى نيامي فيكتوريا نولاند، وهي شخصية مثيرة للجدل، ولكنها مؤثرة للغاية تشغل منصب وكيلة وزارة الخارجية، للتأكيد على الأهمية التي توليها الولايات المتحدة لعلاقاتها مع النيجر. وتبين جوهرياً من المراسلات الدبلوماسية مع اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب أنه إذا طلبت الولايات المتحدة إعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى مهامه، فليس لديها أي تحيزات أو تحفظات ضد الانقلابيين. يدين المسؤولون الأميركيون الانقلاب بشكل اعتيادي، لكنهم لا يطرحون إنذاراً نهائياً أو شروطاً حقيقية لمحاوريهم الذين يعرفونهم جيداً. في الواقع، من الواضح أن واشنطن ليس لديها خطط لدعم مشروع عسكري لاستعادة الديمقراطية، ناهيك عن المشاركة فيه.

وقد تم تأكيد هذا التوجه لاحقًا من الناحية الدبلوماسية من طرف وزير الخارجية أنتوني بلينكن. ولذلك فإن الولايات المتحدة راضية عن الوضع في نيامي، ولا تؤيد أي مبادرة مسلحة من طرف المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا وفرنسا، وهمها الأساسي هو الحفاظ على قواعدها مع إبقاء المجموعة العسكرية الروسية الخاصة فاغنر بعيدة ولمواجهة النفوذ الصيني. وعلى هذا فإن الولايات المتحدة تؤمن بأن حماية مصالحها في ظل الوضع الراهن أفضل من الدخول في حرب مجهولة ذات عواقب لا يمكن التنبؤ بها. لا يمكن للجزائر إلا أن تأمل في أن ينتهي الأمر بأصحاب القرار النافذ في الغرب إلى فرض رؤيتهم السياسية على حساب أي موقف عدواني.

إن الخطر المحدق على الجزائر والناتج عن زعزعة استقرار بلد تشترك معه في حدود يبلغ طولها حوالي ألف كيلومتر هو أكثر من مؤكد. وفي حالة نشوب صراع، فمن المرجح أن تتطور التوترات القديمة والتي تبقى قائمة في شمال مالي بشكل سلبي، مما يؤثر على المناطق المجاورة للنيجر. إن اتساع نطاق عمل الجماعات التكفيرية وكذلك تطور الأنشطة الإجرامية البحتة للعصابات المنظمة، التي شجعها انهيار دولة النيجر، هو احتمال يثير القلق الأكبر بالنسبة للجزائر التي تجد نفسها بحكم الأمر الواقع محاطة ببلدان تشهد أزمات. سواء كانت هذه البلدان في حالة تفكك، مثل ليبيا، أو في أزمة اقتصادية خطيرة للغاية، مثل تونس، أو ضعيفة للغاية مثل موريتانيا، أو توسعية ومعادية بشكل مباشر مثل المملكة المغربية. وبطبيعة الحال، فإن مسألة الهجرة غير الشرعية التي تقض مضجع الأوروبيين سوف تصبح مسألة مستعجلة بشكل لا يمكن السيطرة عليه. ماذا عن تدفقات اللاجئين الإضافية في حالة نشوب نزاع مسلح كبير في منطقة الساحل؟ وإنه لمن غير المقبول الاستمرار في إلحاق أضرار بالمنطقة المغاربية من خلال مضاعفة التداعيات الإنسانية والسياسية للمغامرات الغربية التدميرية في أفريقيا.

لقد كانت منطقة الساحل لسنوات عديدة مسرحًا لمناورات استراتيجية شاركت فيها، بشكل مباشر أو من خلال وسطاء محليين، جهات فاعلة من خارج القارة. وتفسر المخاطر المتعددة، ذات الأهمية الكبيرة، انتشار هذه الجهات الفاعلة الأجنبية في المنطقة. في جو من البؤس وإهمال كلي للمواطنين الذين بالكاد يستطيعون سد رمقهم للبقاء على قيد الحياة، تزدهر الحركات الإرهابية التكفيرية والمجموعات الإقطاعية المسلحة، بتمويل ودعم من دول خارج القارة ، من الخليج على وجه الخصوص ،التي تريد ابقاء منطقة الساحل، وجزء كبير من ليبيا والسودان ودول ساحل شرق إفريقيا في ظروف من عدم الاستقرار الهيكلي.

وبالإضافة إلى العواصم الاستعمارية السابقة أو القوى العسكرية أو الاقتصادية الكبرى، فإن وظيفة الدول العميلة ظاهر للعيان بشكل كبير. وهكذا فإن دولة الإمارات العربية المتحدة، رأس حربة الإقطاع العربي الذي أسسته الإمبريالية الإنجليزية تاريخياً، والتي تخشى قبل كل شيء من الصحوة الديمقراطية للمجتمعات العربية الإسلامية، فتساهم في تفاقم التوترات الإقليمية. لقد حلت الإمارات العربية المتحدة محل المملكة العربية السعودية في دور المحرك المركزي لردة الفعل العربي، والتي كانت بالأمس وهابية ومناهضة للشيوعية ، واليوم مناهضة للديمقراطية، تكفيرية ومؤيدة لإسرائيل. إن الموقف العدائي لدولة الإمارات العربية المتحدة لا يهتم بالأشكال: فهي تورد الأسلحة إلى الجيش الملكي المغربي ووصل بها المطاف إلى فتح قنصلية في الأراضي المحتلة في الصحراء الغربية. هذا البلد يغذي الخراب في ليبيا من خلال دعم « المشير » حفتر، وفي السودان قامت أبو ظبي بتمويل وتسليح الجنرال دوغلو « حميدتي » الزعيم السابق للجنجويد وقائد قوة الدعم السريع في الحرب ضد الجيش السوداني. وفي منطقة الساحل، كانت الإمارات العربية المتحدة منذ فترة طويلة أكثر من يشتبه في دعمها، تحت ستار المساعدات الإنسانية، للجماعات الإرهابية أو المثيرة للفتنة أو الانفصالية.

وبالتنسيق مع إسرائيل، اتخذت تدخلات هذه الإمارة الخليجية شكل ضغط مباشر على بلدان المغرب العربي في الأشهر الأخيرة وخاصة تونس وموريتانيا لإجبارهما على التوقيع على « اتفاقيات إبراهيم » للتطبيع مع تل أبيب أو بالأحرى اتفاقية الخضوع، وأظن أن هذا الوصف سيكون أكثر انسجاماً مع الواقع. وفي هذه الحالة فإن محاصرة الجزائر ليس من نسج الخيال.

إن هذا التهديد ضد نظام لم يتنكر كليا للمبادئ التي صيغت خلال الثورة التحريرية، موجه بشكل أساسي ضد الأمة الجزائرية في حد ذاتها. إنها بالفعل روح المقاومة في المجتمع الجزائري التي يرغب أعداء الحرية في تحطيمها بشكل نهائي. وفي الواقع، فإن الشعب الجزائري المقاوم هو الذي ترغب هذه الإقطاعيات القاتلة للحرية في وضعه في معسكر الخضوع لليبرالية المعولمة والعنصرية والاستغلالية، والتي أمثال هذه الدول العميلة هم المنفذون لها بكل خضوع.

  1. كيف يمكن للجزائر أن تدافع عن وحدة أراضيها في مواجهة الاضطرابات الدولية المتعددة؟

إن كل هذه العناصر تشكل صورة بليغة. وعلى الرغم من فساده ورداءته والإشارات التصالحية التي يرسلها بانتظام، فإن النظام القائم في الجزائر يدرك أن إضعاف الدول المجاورة له، وظهور الجيش الصهيوني إلى جانب الجيش المخزني والنشاط الإماراتي، الذي أصبح معاديًا بشكل علني ومتزايد، يشكل تهديدات كثيرة موجهة ضد بلد يرفض مواطنوه، الذين يُنظر إليهم على أنهم وحدويون، الخيارات الرئيسية للمواقف العربية، أولاً في فلسطين، ويرفضون كذلك النظام الذي تعتزم الإمبريالية فرضه على غرب آسيا والمغرب العربي.

إن حروب الناتو وما تقوم به دول الخليج في العراق وليبيا وسوريا واليمن ينظر إليها الجميع، بما في ذلك النظام الجزائري القائم، على أنها دليل واضح بأن الغرب لا يحترم أي قواعد ولا يأخذ في الاعتبار الدول والشعوب التي يريد إخضاعها. إن التنازلات المقدمة للغربيين، والتي قد تكون في بعض الأحيان بمثابة مساومات، بعيدة كل البعد عن ضمان استقرار العلاقات والحماية من الانتكاسات الانتهازية والخيانات بشكل جيد ومناسب. لقد شهدت عراق صدام حسين أو ليبيا معمر القذافي، بأشكال مختلفة، استغلال منقطع النظير، ولكن تم تدميرهما في نهاية المطاف على يد نفس الدول التي شجعاهما على سلوك طرق مسدودة.

إن الصراعات التي تنطوي على تدخل مفترض من طرف جيوش حلف شمال الأطلسي أو حلفائه، والحروب « بالوكالة » غير المباشرة، تشكل كلها دروساً مفيدة لتطوير استراتيجيات التكيف مع المخاطر المعاصرة. إن عناصر العقيدة المذكورة هنا وهناك لا تهم إلا بشكل هامشي، فمن الواضح أن الهدف الأساسي لأي دفاع وطني لدولة جنوبية ضد خصم أقوى هو في حد ذاته ردع أي تلميح للعدوان. ولذلك، يتعين على الجزائر أن يكون لديها جيش يتمتع بقدرات يستطيع بواسطتها الاستجابة بما يكفي لتثبيط أي طرف في سياق المواجهات غير المتكافئة .

إن تاريخ الجزائر وموقعها الجغرافي والقيود التي تفرضها البيئة غير المستقرة أو المعادية، هي التي تحدد بطبيعة الحال خياراتها الدفاعية والأمنية. ويجب أن يبنى النظام الدفاعي على قدرات كمية ونوعية مع الأخذ في الاعتبار حجم الدولة وطول حدودها وطبيعة التهديدات التي تحيط بها. ومن الضروري استعمال كل الموارد البشرية والمادية لمواجهة التحديات الاستراتيجية والتغيرات التكنولوجية التي ستضيف حتما عبئا كبيرا على الميزانية. وفي الواقع، تتميز الصراعات الجديدة بشكل حاسم باستخدام أسلحة جديدة ومكلفة تتطلب تدريباً مكثفاً للمتخصصين القادرين على استعمالها بإتقان. إن جيوش اليوم، بل وجيوش الغد، هي قوة قتالية مكونة من مهندسين وتقنيين يشرف عليهم استراتيجيون.

إذا لم يكن هناك بديل للموردين الأجانب للمعدات عالية التقنية، فلا يمكن تصور دفاع وطني دائم إلا من منظور التخفيض التدريجي للاعتماد على الترسانات الأجنبية. وتكمن الهشاشة الرئيسية في الجزائر في هذا الجانب الأساسي إلى حد كبير في إنتاجها الصناعي المنخفض للغاية إلى جانب العجز الهيكلي عن تقليل التبعية الغذائية المفرطة إلى مستوى مقبول إلى حد ما.

إلى متى يمكن للجزائر، التي تعتمد كليا على عائدات النفط والغاز، أن تصمد إذا اضطرت إلى مواجهة انقطاع إمداداتها الأساسية؟ وعلى نفس المستوى من الأولوية الذي يحظى به البحث عن التلبية المثلى للاحتياجات الغذائية من خلال الموارد الذاتية، فإن بناء قاعدة صناعية متنوعة قادرة على إنتاج حصة متزايدة من المعدات والمواد الاستهلاكية يعد ضرورة وجودية. وفي هذا الصدد لا يتعلق الأمر بتعزيز منطق الاكتفاء الذاتي، بل بتحقيق مستوى كافٍ من الإنتاج لضمان درجة أكبر من الاستقلالية للبلاد ومكانة نوعية في الشَراكات الإستراتيجية متعددة الأبعاد.

لأنه من الواضح أن من بين المعايير الموضوعية لتعريف الدفاع الوطني العملياتي هو التحالفات الخارجية. تحت ضغط الأحداث، فإن القيادة الحالية، ما لم تتخل عن التاريخ تماما وتخاطر بالظهور علنا، فهي مجبرة إلى العودة إلى المبادئ التأسيسية للسياسة الخارجية الوطنية التي حددتها الثورة الجزائرية في نداء 1 نوفمبر 1954 وأعلنتها على الساحة الدولية سنة 1955 في قمة باندونغ.

إن السيادة الوطنية القائمة على قدرات البلد الذاتية تتعزز من خلال إعادة التأكيد على مبادئ عدم الانحياز، وحل النزاعات بالوسائل السلمية، وعلى نفس النهج، من خلال تعزيز التحالفات الأمنية مع الشركاء المستقلين، ولا سيما أولئك الذين ثبتت موثوقيتهم تاريخيا. ولهذا العامل الأخير أهمية حاسمة في سياق سياسي عالمي يهيمن عليه التشكيك في بنية العلاقات الدولية التي بنيت بعد الحرب العالمية الثانية.

وهذه الأبعاد الاستراتيجية والمادية والدبلوماسية ضرورية، ولكنها غير كافية لضمان أمن البلاد. وفي نهاية المطاف، فإن المعايير المادية والتنظيمية وخيارات السياسة الخارجية والتحالفات الخارجية ليست سوى هامشية فيما يتعلق بالظروف السياسية التي تحدد الدفاع الوطني للبلاد . وإن الجيش القوي هو ذلك الذي يكون قادرا على الاعتماد على شعب حر تحترم آراؤه وتؤخذ بعين الاعتبار. وللاقتناع بأهمية الشرط السياسي، من الضروري فقط ملاحظة الانهيارات العسكرية للديكتاتوريتين العراقية والليبية، فضلاً عن الأداء الفاشل لجيوش إمارات الخليج المجهزة بشكل مفرط في حربها الإجرامية ضد شعب اليمن.

وفي الجزائر، يغذي خنق الحريات الركود السياسي والفكري لمجتمع معزول عن نخبه المُكممة. إن سجن الصحفيين أو الناشطين أمر لا يطاق ويساهم في تفاقم المناخ الاجتماعي الخانق بشكل خطير حيث يصبح السبيل الوحيد للشباب هو الهروب بشكل غير قانوني إلى أوروبا المعادية. ومن المفارقة أن الطبيعة المذعورة لنظام جاهل يبحث عن أعداء من داخل البلد لا تنتج إلا ما يدعي زورا أنه يحاربه. إن الاستبداد الريعي، في العرض الدائم لأوجه قصوره، غير منتج عضويا، وإدارته الفوضوية وغير المتماسكة، ليس لها آثار حاسمة. إن واجهة الإجماع التي تفرضها شرطة النظام تشكل إهانة للذكاء الإبداعي لمئات الآلاف من الاطارات المهمشين بقدر ما هي اعتداء على كرامة الشعب بأكمله. وفي ظل عقمه المزمن وإدارته الفاشلة، فإن النظام، الذي لا قاعدة له سوى زبائنه المستفيدين، يشكل في حد ذاته مصدر لِمَواطن الضعف في البلاد.

إن غياب النقاش الحر يُضعف لا محالة، عملية صياغة مفهوم وطني سليم لقدسية الأرض والحفاظ على استقلالية اتخاذ القرار في عالم متغير. إن التحدي الذي تواجهه الهيمنة الغربية من طرف المراكز الحضارية الناشئة الأخرى ينذر بأوقات عصيبة. إن خطوط الصراع بين الغرب المصمم على الحفاظ على تفوقه والدول التي تريد الدفاع عن سيادتها وأمنها والتي تمتد من أوروبا الشرقية إلى مضيق تايوان عبر غرب آسيا، ومن الخليج إلى فلسطين. وفي هذه الدائرة من الأزمات، تتزايد حدة التوترات. إن الحرب في أوكرانيا، بين حلف شمال الأطلسي وروسيا هي مقدمة للمواجهات التي يمكن أن تؤثر على الكوكب بأكمله. إن تزايد التهديدات التي يتعرض لها السلام العالمي وتكاثر بؤر التوتر تنذر بحدوث انقسامات عنيفة ربما لن تسلم من السياقات الإقليمية، غرب البحر الأبيض المتوسط ​​والمغرب العربي والصحراء والساحل، التي تقع فيها الجزائر. ولذلك، لا بد من النظر في كافة الاحتمالات من خلال تهيئة الظروف اللازمة لتوطيد وتجديد العلاقة بين الشعب والجيش. مع الأخذ في الاعتبار أنه إذا كان الجيش هو الأداة المخصصة لحماية البلاد، فإن الشعب صاحب السيادة وسيادة دولة القانون يشكلان الأساس الذي لا يتزعزع لأي سياسة للدفاع عن الأمة.