ذكريــــــات تلميـــذ: احلامنـــــا الفتيـــــــة المُجهَضــــة

موسى بورفيس، 42 سنة، طبيب، ألجيريا ووتش،11 جانفي 2023

كنتُ لا أزال تلميذا بالمدرسة الابتدائية يوم انقلاب 11 جانفي 1992. أتذكر ان الفترة التي سبقت الانقلاب تميزت بحركية خارج البيت، وعنفوان امتد زخمه حتى داخل البيوت. كانت النقاشات السياسية محمومة في تلك الفترة، تشغل حيزا كبيرا من لقاءاتنا العائلية. اتذكرُ جيدا تلك الطاقة الإيجابية، المفعمة بالطموح، التي كانت حينذاك تملأ قلب والدي، وإخوتي وأخواتي بخصوص مستقبل البلاد. كان والدي قليل الحضور بالبيت آنذاك، نظرا لمشاركته في مختلف التظاهرات السياسية التي كانت تنظمها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي كان عضوا فيها. كان والدي الذي شارك في حرب التحرير الوطني، جذ محبط في نهاية الثمانينيات، جراء ما شاهده من سطو تدريجي على البلاد من طرف ورثاء الاستعمار، وما رافق ذلك من انتشار الظلم بحق المواطنين. ومع انفتاح الأجواء السياسية، في سنة 1989، لاح فجأة بصيص أمل في عودة البلاد بين أيادي أمينة.

رغم صغر سننا آنذاك، لم نكن بعيدين عن الغليان الجاري خارج المدرسة. رغم اننا لم نكن نفهم الكثير في السياسة، لكن كان لدينا إحساس ان تغييرا إيجابيا يجري على أرض الواقع، تغييرٌ يذكرنا بديناميكية حرب التحرير الوطني حتى وإن كانت معرفتنا بها، تقتصر على ما تعلمناه من الكتب المدرسية وعبر روايات ابائنا…

في جوان 1990، أيام قليلة قبل الانتخابات المحلية، كنتُ يومها بالصف الثالث ابتدائي، طلبت معلمتنا، مِن تلاميذ قسمنا، أن كل من سيُصوّت والده لصالح الجبهة الإسلامية للإنقاذ، يرفع يده. أذكر أن كل التلاميذ رفعوا أيديهم الا تلميذا واحدا قال ان أباه سيصوت لصالح حزب جبهة التحرير الوطني. اذكر كذلك ان مناضلي حزب جبهة التحرير الوطني لم يكن بمقدورهم إقناع الناخبين بالتصويت لصالحهم، الأمر الذي جعلهم يقصدون سكان الريف، في محاولة منهم كسب أصواتهم، لكن بدون جدوى، حيث كانوا يطردون وينعتون باللصوص أينما حلوا، سواء في القرى أو المدن.

لقد اكتشفنا بفضل انفتاح ربيع 1989 ان كبارنا في السن، يستطيعون فعلا تقرير مصير قرانا، ومداشرنا والبلد بأكمله. نحن أبناء الشعب، الذين كنا نعيش تحت هيمنة نظام الأفلان المستبد، مع ما فرضه من جمود وموت سياسي على المجتمع، لم نكن نعرف أننا نملك حقوقا سياسية، إذا جاز لنا استعمال مصطلحات الكبار.

كانت الجماهير جد متحمسة وتواقة من أعماقها، الى التغيير، الى درجة كان عدد كبير منهم على أهب الاستعداد للتصويت، ليس ذلك فحسب، بل متحمسون لدفع كل من يعرفون من الناس وتحفيزهم على التصويت بما في ذلك كبار السن وربات البيوت، اللواتي سارعن إلى أخذ لأنفسهن صورة الهوية وتقديم طلبات للحصول على بطاقة التعريف الوطنية، شيء فريد من نوعه، يحدث لأول مرة، بالنسبة للكثير منهن. بلغت تلك الحماسة درجة فائقة، بحيث لم تمنعهن حتى أهم انشغالاتهن، كجني محصول الزيتون على سبيل المثال، من الذهاب الى مكاتب الانتخاب. اتذكر يوم 26 ديسمبر 1991، في عز موسم جني الزيتون بمشتى تانفلشت، سار والدي ووالدتي، مشيا على الأقدام، عبر طريق جبلي وعر، حوالي مسافة 3 كلم، للوصول إلى مكتب التصويت بابتدائية مشتى الزعرورة بمنطقة بني خطاب بجبال جيجل. لم يكن أحدٌ قبل ذلك، يهتم بالانتخابات التي كان ينظمها الحزب الحاكم قبل انفتاح 1989، ولا أحد كان ينتظر منها شيئا، وكان الجميع يعلمون ان نتائجها محسومة مسبقا.

لقد وقـــــــــــــــــــــعنا في أتون الحـــــــــــــــرب

وفجأة حدث الانقلاب. لم يكن بمقدورنا بصفتنا مجرد أطفال، فهم معنى ما يحدث، ولا توّقع ما ينجر عنه من نتائج دراماتيكية وتأثيرها علينا، وعلى عائلاتنا، وعلى دراستنا وعلى مستقبلنا وبلدنا. لكن كان باستطاعتنا، استشعار خطورة الوضع، في عيون الكبار الذين كانوا يحيطون بنا ومن خلال أحاديثهم التي تغص بعلامات الخطر. حتى والدي، الذي صقلته التجارب القاسية اثناء فترات الاضطرابات في البلاد، لم يكن يتوّقع حدوث ما كان ينتظر البلاد من أهوال، ولا الأسوأ الذي كان ينتظره هو شخصيا، وأفراد عائلته وقريته. والدي، الذي عاش معاناة الشعب تحت الاستعمار، كان يقول في قرارة نفسه اننا، في كل الأحوال، ومهما يحدث، نعيش في بلدنا مستقلين، وأن مَن يمسكون زمام السلطة مهما كانت تصرفاتهم، فهم في نهاية المطاف، جزائريون مثلنا ولن يلحقوا ضررا بشعبهم. لكن اكتشف والدي رويدا رويدا ان الوحوش البشرية التي كانت تسكن إقامات العاصمة الرسمية، كان لديهم ما يكفي من الجرأة لارتكاب أبشع الجرائم التي تذكر بفظائع الاستعمار… للأسف موجة التقتيل هذه حصدت في طريقها والدي وأخي الأكبر بشير، اللذان تم اختطافهما من قبل عناصر من الجيش والدرك الجزائريين، ويُعَدان ضمن قائمة آلاف المختطفين في الجزائر « المستقلة ».

أما نحن الأطفال الأبرياء، فقد وجدنا أنفسنا فجأة، وقد ألقي بنا في دوامة فوضى عارمة، لم نكن نفهم لا مدى خطورتها ولا مدى التدهور الأمني الناجم عنها…

في يوم من مستهل شهر مارس 1994، كنتُ حينذاك، في السنة السابعة متوسط بإكمالية محمد جناس بالعوانة بولاية جيجل، كنا داخل القسم، فجأة سمعنا زخات رصاص متتالية من سلاح آلي « كلاشينكوف » من مكان قريب. لم نأخذ نحن التلاميذ الأمر بجدية، وأذكر أنني لاحظتُ ساعتئذ في عيون أستاذ اللغة الفرنسية رعبا، يحثنا من خلال نظرته، على ضرورة توخى الحذر وأخذ الامر بجذية. عند خروجنا من المتوسطة بلغنا أن شاحنات عسكرية، كانت ترافق حافلة للعمال الروس بالمحطة الكهربائية بمنطقة أشواط بجيجل، وهي في طريقها الى مدينة بجاية، تعرضت الى كمين بمنطقة الكهوف العجيبة. إحدى الشاحنات العسكرية المرافقة، تمكنت من الإفلات من الكمين والعودة الى جيجل. وفي طريق عودتها، قام الجنود على متن الشاحنة، بإطلاق الرصاص على سكان القرى، القاطنين بجنبات الطريق، مخلفين عدة قتلى وجرحى. وفي مدينة العوانة وقع عدة جرحى، كان من بينهم إحدى زميلاتي في المدرسة. ومنذ ذلك اليوم، أدركنا أن الأمر يتعلق بحرب وأنها لن تستثنينا…

لا يمكنني مواصلة هذه الشهادة، دون ذكر حادثة اعتقال خمسة من أحسن الأساتذة من داخل متوسطة محمد جناس بالعوانة، كان من بينهم الأستاذ بشطلة، أستاذ العلوم الطبيعية، أحد اعلام المتوسطة المعروف بكفاءته وبحسن معاملته للتلاميذ…كنا في ذلك اليوم، في درس مع أستاذ لم تشمله حملة الاعتقالات تلك. فجأة دق المراقب العام باب قسمنا، قبل أن يفتحه، رفقة قائد فرقة الدرك الوطني بالعوانة. قام الاثنان بإلقاء نظرة داخل القسم لمعرفة مَن هو الأستاذ الذي يلقي الدرس. اذكر ان المراقب العام كان يبدو من خلال ملامح وجهه، وكأنه رهينة مغلوب على أمره. كل التلاميذ أصيبوا بالصدمة جراء عملية الاقتحام والاعتقال، خاصة بعد استبدال الأساتذة المعتقلين بآخرين مستخلفين اقل كفاءة بكثير، وما ترتب عن ذلك من تدني مستوى ونوعية التدريس المقدم لنا. انقطعت جميع الأخبار عن الأستاذ بشطلة طيلة أسابيع عدة، قبل ان يتم إطلاق سراحه، وتأثرنا كثيرا لمّا علمنا ان الأستاذ شرايطية تمكن من الفرار والإفلات من حملة الاعتقالات والتحاقه بالجبل، هو أيضا كان محبوبا جدا لدى التلاميذ، وقد زاد تأثرنا وألمنا عندما علمنا، حوالي سنتين بعد ذلك، انه قُتل في اشتباك مع قوات الجيش…

هناك مشهد سيظل محفورا في ذاكرتي ما حييتُ. استيقظت ذات يوم من شهر أفريل 1994 بالعوانة ـــــ عند العودة من عطلة الربيع ـــــ وككل يوم ألقيتُ نظرة عبر نافذة الغرفة المُطلة على الطريق المؤدي الى المتوسطة، وكمْ كانت مفاجأتي، لما رأيت أن كل الفتيات يرتدين الحجاب، وسبب ذلك، أن « الجماعات المسلحة » قد أنذرت السكان قبل ذلك، بأن أي فتاة لا ترتدي الحجاب سيتم ذبحها…

في بلدية العوانة، بعد مجيء الدموي بن عودة وترأسه الفرقة الإقليمية للدرك الوطني، شهد الوضع الأمني تدهورا مروعا الى درجة، تم الإعلان في نهاية السنة الدراسية 1995 عن سنة بيضاء بمتوسطة البلدية، ومثل الكثيرين غيري، اضطررتُ إلى الانتقال الى بلدية الأمير عبد القادر لمواصلة دراستي…

العنف نفسه، الذي مارسه المستعمرون الفرنسيون

في سنة 1995 كنتُ في السنة الأولى ثانوي بثانوية ماطي احسن ببلدية الأمير عبد القادر. في أحد أيام نوفمبر كنا في طريق عودتنا من الثانوية الى البيت. صادفنا في طريقنا بعض العناصر من قوات الجيش ــــ الفيلق الخامس للمشاة البحريين BFM الذي أقام ثكنة له في بلديتنا ذلك الصيف. في طريق عودتنا إلى البيت، اضطُررنا إلى الركض بعد ان لاحقنا أفراد الجيش، وكلُ مَن وقع بين أيدهم من التلاميذ، أخد نصيبه من الضرب والركل والصفع، وصلت وحشية بعضهم إلى توجيه ضربات بعقب أسلحة الكلاشنكوف، كل ذلك بدون أي سبب أو مبرر. أما أنا فقد ساعفني الحظ، وأفلتتُ من قبضتهم، بعد ركض منهك، لكن زملائي في نفس القسم، أصيبوا بجراح خطيرة وآثار نفسية بالغة لم تبرحهم. أتذكر ان بعض الجنود الذين اعتدوا علينا، كان يبدو عليهم أثر شرب الخمر وتعاطي المخدرات. واصل أفراد الجيش سيرهم الى الثانوية، ثم دخلوا أقسام التدريس، وانهالوا ضربا على التلاميذ والأساتذة… كانت وقائع حقيقية، ظلت إلى الأبد محفورة في ذاكرتنا، ترسم مجرى حياتنا المأسوية بعد انقلاب 1992. إن الصورة التي تشكلت في أذهان تلاميذ وأطفال منطقتي عن قوات أمن بلدهم، من خلال تلك التجارب الصادمة، تماثل الصورة التي تراكمت لديهم عن المحتلين الفرنسيين. وليس ثمة أي استغراب في ذلك، كنا نرى قوات الأمن، تمارس أمام اعيننا، بل علينا نحن الأطفال، نفس الانتهاكات التي كان يرتكبها السفاح بيجار ومن على شاكلته، تلك الممارسات التي اطلعنا عليها في كتب التاريخ المدرسية.

أتذكر مشهدا آخر لا يقل رعبا عن المشاهد السابقة. في أحد أيام الربيع من سنة 1996 التقيتُ بأحد جيراني، يقاربني في السن، اسمه علي بونايل. كانت عائلته تملك بيتا في بلدية الأمير عبد القادر ومزرعة بالريف لتربية الأبقار، تقع على بعد حوالي كيلومترين اثنين جنوبا، بالضبط في منطقة شندوح بالقرب من جبل سيدي علي. كان أفراد عائلته، الإخوة والأب، يقطعون هذه المسافة يوميا لاقتياد الأبقار الى المرعى، ثم العودة بالحليب في المساء. عند مدخل القرية، أقيمت ثكنة مؤقتة لإيواء عناصر الفيلق الخامس للمشاة البحريين بجانب الطريق الذي يسلكه كل السكان القادمين من الجبل. كانت الساعة حوالي الخامسة مساءً عندما التقيتُ بعلي وهو عائد من المزرعة الى البيت، كان وجهه شاحبا جدا وعيناه تفيض بالدموع. روى لي كيف أنه، لدى مروره، أمام ثكنة الجيش، قام أحد العساكر بتوقيفه وسأله إن كان قد رأى « الإرهابيين » في الغابة. وبعد إجابته بالنفي، رغم إلحاح العسكري، قام هذا الأخير بوضع خنجره العسكري في رقبته، وضغط بشدة، إلى درجة ترك آثرا في رقبة الطفل، وقد رأيتُ بأم عيني تلك الآثار على مستوى رقبة علي…

لا يمكنني أيضا، عدم ذكر ذلك اليوم الرهيب الذي عاشه كل سكان بلدية الأمير عبد القادر بجيجل، بما فيهم أفراد عائلتي، كان ذلك يوم 17 فبراير 1996، من شهر رمضان، يومين قبل يوم عيد الفطر. وقعت الحادثة في يوم السبت ـــ بداية الأسبوع ـــ وكان على الناس ان يستيقظوا باكرا، ليتوّجه كلٌ منهم، إلى أعماله ومشاغله، لكن في ذلك اليوم تحديدا، استيقظ الناس في ساعة أبكر عن عادتهم. الذي حدث انه في ليلة الجمعة الى السبت، قُتل أحد جنود ثكنة المشاة البحرية، رميا بالرصاص قبل منتصف الليل بقليل. تم على إثر ذلك، إعلان الطوارئ وإرسال تعزيزات عسكرية من مدينة جيجل، كان على رأسها قائد القطاع العسكري العملياتي بجيجل. تم إغلاق كل مداخل القرية، ليقوم أفراد الجيش وعناصر من ميلشيا الدفاع الذاتي، بعملية انتقام ضد كل سكان القرية الذين دفعوا الثمن باهظا لقتل العسكري. أغلب المنازل التي تقع على الطريق الرئيسي تم اقتحامها بالقوة من قبل العساكر وعناصر المليشيات، ابتداء من الساعة الخامسة صباحا، مع اعتقال كل الرجال الموجودين بالداخل، فضلا عن تعرضهم لوابل من الركل والضرب بعقب بنادق الكلاشينكوف، قبل نقلهم مشيا على الأقدام، الى ملعب البلدية الواقع شمال القرية. استمرت العملية طيلة نهار يوم السبت مع الإبقاء على غلق منافذ القرية، ولم يُسمح لأحد الدخول إليها أو الخروج منها. اضطر أحد إخوتي الذي كان يشتغل معلما في الابتدائي في بلدية أخرى، العودة إلى البيت ذلك اليوم. أحد أبناء جارتنا المقيم بالعاصمة، كان مقررا أن يعود الى العاصمة ذلك اليوم، بعد انتهاء زيارة أجراها رفقة زوجته، إلى والدته، لكنه هو الآخر تم منعه من الذهاب الى العاصمة. بعد تلك الليلة المفزعة، توفي شخصان، السيد زراولية مجيد والسيد خلالف أحمد، متأثرين من هول الصدمة وعنف أفراد الجيش. قُتِلت أيضا طفلة، من عائلة بن عواطة، عمرها حوالي عشر سنوات، كانت تقيم بحي تاميلة، لقت حتفها برصاصة طائشة أطلقها عناصر الجيش.

والدي الذي كان يهم التوجه، كعادته للعمل (تعليم القرآن)، بالمدرسة القرآنية لمسجد الإصلاح بقرية العيايشة ـــ بلدية قاوس ــــ هو الآخر، مُنِع من الذهاب إلى مكان عمله وتم إرجاعه من قبل العساكر. في تلك الأثناء، انتشرت شائعات بين أبناء القرية تفيد بأن العساكر سيعتقلون كل الرجال وسيعدمونهم رميا بالرصاص بملعب البلدية. ليتصوّر القارئ الكريم، حجم الرعب الذي عشْتُه كطالب ثانوي ذلك اليوم ـــ وجميع أقراني من التلاميذ وسكان القرية قاطبة ــــ لمّا بلغتني تلك الأنباء وأنا اشاهد بأم عيني العساكر وهم يتنقلون من بيت الى آخر، لاعتقال الرجال المتواجدين بتلك البيوت. أتذكر، كانت الساعة العاشرة صباحا، وكنتُ جالسا بالشرفة بجانب والدي الذي كان يقرأ القرآن للتخفيف من شدة الروع السائد حينذاك. كانت شرفتنا تطل على حي المنظر الجميل الذي يقع على مسافة حوالي كيلومتر واحد من بيتنا. لن أنسى أبدا تلك المشاهد المرعبة: أفواج العساكر، ينتقلون من بيت الى آخر، في ذلك الحي، يقتحمون البيوت بعنف ثم يعتقلون كل الرجال، قبل تجميعهم أمام المدرسة الابتدائية قبل نقلهم الى الملعب. وأثناء نقل رجال القرية، بعد انتزاعهم من أحضان ذويهم، كانت النساء وخاصة الطاعنات في السن، يتبعونهم توسلا، وهن يجهشن بالبكاء، ويتضرعن للعساكر، يترجونهم إطلاق سراح أزواجهن أو ابنائهن أو إخوانهن، دون أن يؤثر ذلك البتة في أفراد الجيش، بينما كان إثنين او ثلاثة من أفراد العساكر، يُمعِنون في إبعاد النساء ضربا بالعصي تحت وابل من السب والشتم.

لحسن الحظ ولأسباب يجهلها كلنا، اكتفى العساكر بتعذيب المعتقلين من الرجال المحتشدين بالملعب قبل أن يطلقوا سراحهم نهاية اليوم. لكن قبل ذلك، كان على المعتقلين الاختيار بين تلقي الركل، أو الضرب بعاقب الكلاشينكوف، أو الصفع والضرب بالعصي، فضلا عن تمريغهم في الوحل، وحلق رؤوسهم، وتمزيق سراويلهم. حوالي الساعة الثالثة بعد الزوال، بدأ إطلاق سراح أول الرهائن. رأيتُ بأم عيني أحد الجيران، أحمد بن دريس، يدعى أحمد الشاوي، وهو عائد الى البيت بعد إطلاق سراحه، كان وجهه مغطى بالجراح وملطخ بالدم، وقد تم قص شعره جزئيا ومُزِق سرواله، ليتحول إلى شورت.

بالنسبة لنا نحن الأطفال، يمكن القول إننا كنا سذجا حقا، لكن صُدِمنا من شدة العنف الذي كان يحيط بنا، وقد دفعنا ما حدث من رعب عقب الانقلاب الى طرح الكثير من الأسئلة. هل جيش بلدنا هو حقا سليل جيش التحرير الوطني؟ وكل ما تمخض بعد ذلك من مأسي، طيلة محنة التسعينيات، جعلنا نشكك في السرد الرسمي، بحيث لم نعد نصدق ما تنقله كتب التاريخ المدرسية. الأخطر من كل ذلك، شعرنا أن الكبار لم يخبروننا بكل الحقائق عن تاريخ بلادنا. لقد رأينا خلال حقبة التسعينيات مشاهد تماثل من حيث الرعب والعنف، تلك الصور التي تزين جدران قرانا تخليدا لمعارك حرب التحرير الوطني. وكمْ كنا سذجا، عندما اعتقدنا أن تلك المشاهد موجودة فقط في الكتب المدرسية وفي الرسومات على الجدران…