بعض المفاتيح لفهم المظاهرات في الجزائر

عمر بن درة*: حوار أجراه مروان أندلسي بتاريخ 25 شباط / فبراير2019 السفير العربي 28 شباط / فبراير

• ما الذي يفسر هذه التحرك المدهش للجزائريين يوم 22 شباط / فبراير في عدة مدن من البلاد في حين انه لا أحد يعلم من أطلق الدعوة للخروج في مسيرات؟ ما حصل يشبه – مع مراعاة الفوارق – أحداث تشرين أول / أكتوبر 1988: كنا نعرف ان هناك شيء ما سيحدث لكننا لا نعلم من أين يأتي.

تفسير نوايا نظام سياسي مغلق وعنيف وصلف، يمارِس منذ وقت طويل شكلاً من التوالد الداخلي المتخلف في قمة دوائر القرار السرية، هو تمرين يلازمه دائماً النزوع نحو الارتياب المرَضي. هذا النزوع يتغذى من دعاية تهدف إلى تصوير هذا النظام الذي لا وجه له كمنظومة عالِمة بكل شيء وقادرة على كل شيء. وهذا حتما ليس صحيحاً نظراً للتدهور المتواصل والمحسوس جداً للدولة وتعاظم المخاطر التي تتهدد البلاد. من الضروري اذاً أن نبقى يقظين وألاّ نسقط في التفسيرات المؤامراتية ونتجنب نسْب هذه المظاهرات إلى واحد أو عدة من محركي الدمى الخفيين الذين نفترض أنهم يوجهون تعبيرات الغضب. حتى وان كان من المحتمل جداً ان تكون بعض مراكز السلطة – تلك التي تعتبر أن مصالحها لا تُراعى بالشكل الكافي في ظل التوازنات الحالية – قد حفزت أو شجعت التقاء شروط تعبئة شعبية كبيرة.

مَن بإمكانه أن يزعم جهله بهذه الحقيقة؟ في واقع الأمر، تستطيع أجهزة الدولة، وبدرجة أولى الشرطة السياسية تحت مختلف التسميات التي تطلقها على نفسها، تحريك واستغلال الشارع لحسم الصراعات بين جماعات المصالح داخل النظام. الجميع فهم هذا الأمر فعلاً خلال أحداث « أكتوبر 1988 » وكذلك، ومن منطلق آخر، خلال « المسيرات العفوية » الداعمة لترشح اليمين زروال للرئاسة في 1995- وهو أيضاً كان جنرالاً متقاعداً..

لكن حتى في هذه الحالة بالذات، وفيما يتعلق بالتعبئة التي حصلت يوم الجمعة من شهر شباط /فبراير الحالي، فهذه المراكز لم تقم إلا بتأجيج وضع أكثر من ناضج لحصول احتجاجات بهذا الشكل. بعبارة أخرى، حتى وإنْ كانت بعض المجموعات من داخل النظام قد شجعت المظاهرات التي انطلقت يوم 22 شباط/ فبراير، فليست هي من هندسها. المواطنون هم من تكفّلوا بأنفسهم واختاروا شعاراتهم وأشكال التعبير الخاصة بهم. نفذ صبر الرأي العام الجزائري منذ زمن طويل، ولولا تقاليد الصبر ورفض العنف لما استطاع المجتمع أن يبقي نفسه في وضعية انسحاب أمام النظام ومهازله، وضعية العصيان المدني غير المعلن واللامبالاة إزاء ألاعيب المتحكمين في الدولة. وهذا ما أمكن ملاحظته خلال « حملة » العهدة الرابعة في 2014 حيث أظهر الرأي العام لامبالاة تامة إزاء خطاب النظام.

مذّاك تطورت الأوضاع على كافة الأصعدة. في الواقع، وأعتقد أن الكل يتفق حول هذه النقطة، أحس الجزائريون بالإهانة من مسخرة « العهدة الخامسة » المخجلة هذه، والتي تتمثل في فرض شيخ محتضر كمرشح الأمل والتجديد. لعب هذا العنصر دوراً يشبه صاعق تفجير الغضب، قطرة الماء التي أفاضت كيل السخط والمرارة. ما يرفضه المواطنون ويحتجون ضده لا يقتصر فقط على إعادة انتخاب رئيس – « زومبي » (ميت حي). لقد نفذ صبر الشعب الجزائري، وهو لم يعد يحتمل هذه الديكتاتورية الفظة وعديمة الكفاءة، الفاسدة إلى حد لا يوصف، والتي تقود البلاد، تحت أنظار وأسماع الجميع، نحو غدٍ مظلم.

• هل ان رفض العهدة الخامسة هو السبب الوحيد لهذه التعبئة غير المسبوقة؟

لقد رأينا بوضوح من خلال شعارات المتظاهرين أن المطالب تذهب إلى أبعد من هذا. يحاول بعض « التقدميين » ووكلاء دعاية آخرون يعملون « غب الطلب » تحويل هذا الرفض العام للنظام إلى مجرد احتجاج ضد بوتفليقة. قد تبدو هذه المناورة فجّة لكنها تعمل بالفعل: تريد هذه الأوساط تصريف الغضب الشعبي في اتجاه التصدي للعهدة الخامسة حتى يتم فسح المجال أمام مرشح يختاره التوافق العسكري – البوليسي، يقدَّم على انه بديل مجدد وذو مصداقية. هكذا ومن بين بضعة « أرانب » (كما يطلق على المرشحين في الجزائر)، تتفاوت درجة سخافتها، وتتلخص مهمتها في توفير بعض الصخب، يُعرض علينا كبديل جنرال يظهر من العدم. يمكن أن تقنِع عملية إعادة تدوير الجنرال المهمل هذه الأوساط « المستنيرة » التي تقدِّم نفسها كنخب يتظاهر بعضها بالإيمان بالمعجزة الانتخابية.

يحاول بعض « التقدميين » ووكلاء دعاية آخرون يعملون « غبّ الطلب » تحويل الرفض العام للنظام إلى مجرد احتجاج ضد بوتفليقة. قد تبدو هذه المناورة فجّة لكنها نشطة: تريد هذه الأوساط تصريف الغضب الشعبي في اتجاه التصدي للعهدة الخامسة حتى يتم فسح المجال أمام مرشح يختاره التوافق العسكري – البوليسي.
هذه الحلقات المكلفة بالتصديق على خيارات وهمية تقوم بوظيفتها الاعتيادية. لكن ليس من المؤكد أبداً أن لديهم قدرة كبيرة على التأثير في شعب اعتاد على كل أشكال المخاتلة. لا ينتظر الجزائريون مخلِّصاً تبعثه العناية الإلهية، ولا يريدون قائداً عسكرياً بلباس مدني يخرج من صندوق عجائب، ولا فقيهاً أعيد تدويره. هم يطمحون إلى العيش بحرية كمواطنين محترمين في مجتمع حر، بقيادة نساء ورجال يتم انتخابهم بحرية، في إطار عقد اجتماعي يسري على الجميع ولا يخضع إلا للقانون. الشعب يريد تغييراً جذرياً ويرفض كذلك العهدة الخامسة.

• لكن لماذا يصر النظام على التجديد لرئيس يظهر عليه العجز بهذا الشكل؟

لكي نفهم هذه الظاهرة التي تقودنا إلى وضعية عبثية وتعطي صورة سيئة جداً عن بلدنا، سيكون من المفيد التذكير بحقيقة أن عبد العزيز بوتفليقة كان أحد مؤسسي النظام العسكري – البوليسي الجزائري غداة الاستقلال في 1962. فهو إذاً يعرف جيداً قواعد هذا التنظيم للسلطة وطريقة عملها وممارساتها ومكوناتها. ولا يمكنه في أي حال من الأحوال خيانة منظومة كان أحد أهم مفاتيحها رفقة هواري بومدين (توفي سنة 1978). فبعد مرحلة طويلة من التجاهل والنسيان، تمّ انتشال بوتفليقة من منفاه الذهبي في الإمارات العربية ليخلف اليمين زروال (الذي طُرد من السلطة بلا مجد من قبل الأشخاص أنفسهم الذين صنعوا منه ملكاً في 1995). وتزامن ذلك مع مسيرات تأييد « عفوية » كبيرة. اختير بوتفليقة في البداية لخبرته الديبلوماسية، فقد شغل منصب وزير الخارجية طيلة 13 عاماً – من 1965 إلى 1978- أي خلال الفترة الذهبية للنظام الجزائري. راهن الجنرالات « اليناريّون » وأتباعهم (مدبرو انقلاب 11 كانون الثاني/ يناير 1992 الذي ألغى الفوز الانتخابي ل »جبهة الإنقاذ الإسلامية »)، على براعته الكبيرة للتصدي لخطر المحاكمات الدولية الذي كان يتهددهم بسبب الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها في سنوات 1990 خلال « الحرب القذرة » الشرسة ضد الإسلاميين ومجمل الشعب الجزائري.

نجح بوتفليقة – الذي حظي بموافقة ودعم المسؤولين الفرنسيين، وساعدته ظرفية ملائمة (ضربات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 التي غيرت جذرياً موقف الغربيين من الإسلام السياسي) – في المهمة التي كُلف بها. فلقد مكنته حركيته على المستوى الدولي، وبفضل جملة من التدابير والقوانين المجحفة في العفو واسقاط الجرائم، من إبعاد (مؤقتاً؟) خطر المحاسبة الذي كان يحدق بقيادات الجيش والمخابرات.

لا ينتظر الجزائريون مخلّصاً تبعثه العناية الإلهية ولا يريدون قائدا عسكريا بلباس مدني يخرج من صندوق عجائب، ولا فقيهاً اعيد تدويره. هم يطمحون إلى العيش بحرية كمواطنين محترمين في مجتمع حر.
وبما إنّ الأخبار المفرحة لا تأتي فرادى فقد استطاع عبد العزيز بوتفليقة تعزيز سيطرته بفضل فترة « الانتعاش الاقتصادي » الاستثنائية التي تعود للارتفاع الهام والمستمر في أسعار المحروقات. فاق اتساع قاعدة فساد النظام كل التوقعات، بما أن الجزائر سجلت عائدات نفطية تناهز ألف مليار من الدولارات خلال الفترة الممتدة من 2002 إلى 2013. انتفعت شبكات توكيلات وفساد، مكونة من قادة عسكريين ورجال أعمال تابعين لهم، من هذه الإيرادات الضخمة عبر الاستحواذ على الصفقات العمومية وانشاء الشركات الوهمية. ونظراً لتراكم ثرواتهم ولتزايد أهمية دور الوساطة الذي يلعبونه مع الخارج، فقد تمكن رجال الأعمال هؤلاء من الحصول تدريجياً على موقع قرار في قمة السلطة.

تسبب عجز الرئيس منذ 2013 في تدعيم قيادات النظام الرئيسية في مواقعها السياسية – الإدارية التي أصبحت بمثابة إقطاعات حقيقية فوق القانون العام دون أي مراقبة أو تدخل من سلطة عليا. حتى الملفات التي تتطلب تحكيماً على مستوى قمة الدولة أصبحت تناقش ظرفياً مع المحيط العائلي للرئيس. هذا التنظيم للسلطة الذي يعطّل كلياً قيادة البلاد هو بالمقابل مريح جداً بالنسبة « لأمراء الحرب » الجدد الذين لا يخضعون لأي رقابة.

يتشبث هؤلاء القادة العسكريين ورجال أعمالهم المدنيين، المنضوين جماعات مصالح، بإبقاء بوتفليقة في السلطة على الرغم من كل شيء حتى يحافظوا على إمكانية استفادتهم من الريع الذي، وإنْ هو في تقلص مستمر، إلا أنه يبقى مصدر اثراء واسع ومتواصل. ومع تتالي العهدات الرئاسية ظهر جلياً مدى صعوبة إجماع بيروقراطيات السلطة هذه على بديل توافقي للرئيس المريض. الذين يعارضون العهدة الخامسة من داخل هذه المنظومة لا يسعون لتطوير النظام. كل ما في الأمرأان هناك مجموعات اقصيت من السلطة، بقساوة تتفاوت شدتها، وهي تحاول الانتفاع مجدداً من الريع النفطي.

• المظاهرات ممنوعة في الجزائر العاصمة منذ قرابة 20 عاماً، ما الذي يفسر عدم تدخل قوات البوليس رغم انها كانت منتشرة بكثافة؟

أعتقد أن الذين قرروا إظهار ضبط النفس لم يفعلوا ذلك لاعتبارات « ديمقراطية » إنْ صح القول، بل لأن لهم حسابات أخرى. هم يعلمون أن موجة الرفض واسعة ومعممة وأن هناك شعوراً كبيراً بالسخط. وهذه مجرد معاينة لحقيقة: كل الجزائر من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب إلى الشرق نفذ صبرها الأسطوري. مما يعني، في ظل هذه الحالة الذهنية المنتشرة على مستوى وطني، أن الدخول منذ البداية في حلقة من القمع المباشر والمواجهات العنيفة يمكن أن يؤدي إلى قطيعات لا يمكن توقع نتائجها. كما يعلم « أصحاب القرار » هؤلاء أن أجهزتهم القمعية ليست بمنأى عما يحدث في المجتمع، وانها ليست عديمة الإحساس بما يجري حولها. يبدو ان ضبط النفس الذي أظهرته قوات الشرطة إلى حد الآن هو دليل على سعي النظام للحفاظ على قوته وادخار جهوده وتفادي اهترائه، وهذا يترجِم تخوفه الحقيقي من وضع متدهور يمكن، لا قدّر الله، أن يتعفن مع أقل انحراف. سيكون على النظام حينها تحمل مسؤولية قمع مستمر وواسع بشكل غير مسبوق..

• كيف سيرد النظام؟ تتحدث اشاعات انتشرت غداة مظاهرة 22 شباط / فبراير عن مظاهرة مضادة ينظِّمها المؤيدون للعهدة الخامسة (على الأرجح بتدبير من حزبي « جبهة التحرير الوطني » و »التجمع الوطني الديمقراطي » الخبيرين في مسألة المسيرات « العفوية »). اذا حدث ذلك، ألن يكون هناك خطر انقسام عنيف للبلاد؟

تمتلك هذه الأحزاب « الصورية » التي ذكرتها ما يكفي من الإمكانات المادية لتستدعي روابطها الزبونية التي اشترتها بأبخس الأثمان. توجد في الجزائر، كما في كل المجتمعات، شرائح بلا حس أخلاقي مستعدة لقبول كل أنواع التحريك والتلاعب. فلنتأمل في عدم وقوع ردة الفعل هذه وأن يكون هناك دور لمن حافظ في الجيش والأجهزة الأمنية على حس الدولة، وهم الذين لم يقطعوا تماماً مع الإرث السياسي لثورة الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 – إن كانوا ما زالوا موجودين – في التصدي لمغامرات لا يمكن حساب ثمنها ونتائجها. وهذه الأوساط تتحمل مسؤولية مباشرة.

كان بوتفليقة مقرباً من هواري بومدين (توفي سنة 1978)، أحد مؤسسي النظام العسكري – البوليسي الجزائري غداة نيل الاستقلال في 1962. وهو يعرف جيداً قواعد هذا التنظيم للسلطة وطريقة عملها وممارساتها ومكوناتها.
من جانبهم، فإن مئات آلاف الذين تظاهروا في مختلف ارجاء البلاد قد أظهروا للعالم بكل تألق رفعة مبادئ اللاعنف والتعبير الحضاري عن المطالب، في تطابق مع تقليد مستقر. هذا الشعب، الذي يتلذذ بعض الوصوليين المتناسين لمساراتهم المريبة، بشتمه بكل تعالي، عبَّر بنبل وكرامة عن رفضه الفوضى والاستبداد. عبَّر بقوة اقناع وطاقة تذكِّر بالأيام المجيدة للمظاهرات المناهضة للاستعمار في كانون الأول/ ديسمبر 1960.

• لاحظ الجميع الصمت المخجل لوسائل الإعلام الرسمي يوم المظاهرة (ومراوغات وسائل الإعلام الخاصة). أما الأحزاب التي يقال عنها معارِضة فيبدو انها مذهولة من التحرك الشعبي وبقيت متحفظة جداً. ما الذي يفسر هذه المواقف (الصحافة وأحزاب المعارضة)؟

لا توجد وسائل اعلام حرة في الجزائر كما لا يمكن ان توجد أحزاب مستقلة في ساحة مغلقة بإحكام تتحكم فيها الشرطة السياسية كلياً. لم تتناول القنوات التلفزية، العمومية والخاصة، بتاتاً مسألة المظاهرات ولم تقم بتغطيتها. أما الصحف المرتبطة بالشرطة السياسية والأوليغارشيا فقد ركزت على مطلب رفض العهدة الخامسة مع تجاهل الاحتجاج الجذري ضد النظام في أغلب الأحيان.

هي مسألة منطق سليم محض: هل يمكن أن توجد صحافة حرة في مناخ قاتل للحريات؟ بالطبع لا. داس النظام منذ الانقلاب العسكري الذي حصل في 11 كانون الثاني/ يناير 1992 على الحريات الأساسية المؤسِّسة لدولة القانون. كما تمت مصادرة حريات التعبير والتجمع والتظاهر. ممارسة الصحافة والعمل السياسي محظورة. لكن في المقابل يُسمح لك بأن تكون بوق دعاية للنظام وأن تلعب دور معارضة صورية تظهر ديمقراطية النظام في مناخ مؤسساتي مفبرك بالكامل.

ومع ذلك، فأن هناك رجالاً ونساء سياسة مستقلين ومحترمين والجميع يعرف أسمائهم. هؤلاء لا يتمكنون من إيصال صوتهم، وحتى عندما يمكنهم التعبير يتم في أفضل الحالات تجاهلهم. وعندما يقدِّر قادة الشرطة السياسية أن خطاب هؤلاء السياسيين يلفت انتباه الجمهور بشكل خطير، فإنهم يلجؤون بسرعة لإشعال نيران الإلهاء وضرب المصداقية عبر القدح والشتم والاتهامات الكاذبة.. من البديهي في جو مثل هذا أن يكون بروز التعبيرات السياسية المستقلة والصادقة شاق جداً وأن يصعب التعرف عليها. نأمل أن تسمح هذه التحركات الشعبية أخيراً بصعود كوادر ومناضلين سياسيين شبان وشجعان بإمكانهم جماعياً تأمين انتقال أصبح ضرورة حياتية للبلاد.

فاق اتساع قاعدة فساد النظام كل التوقعات حيث أن الجزائر سجلت عائدات نفطية تناهز ألف مليار من الدولارات خلال الفترة الممتدة من 2002 إلى 2013. انتفعت شبكات توكيلات وفساد مكونة من قادة عسكريين ورجال أعمال تابعين لهم من هذه الإيرادات الضخمة عبر الاستحواذ على الصفقات العمومية وانشاء الشركات الوهمية.
المعاينة نفسها يمكن ان تنطبق على وسائل الإعلام. باستثناء عدد قليل من الصحافيين الشرفاء، أسماءهم أيضا معروفة للجميع، فإن قطاع الصحافة يقوم بشكل واسع على عناصر منضبطة تابعة لميليشيا التضليل هذه. حتى وكالات الأنباء الأجنبية لا تشذ عن القاعدة كما أظهرت ذلك التغطية الفرنكوفونية المبتورة والخادعة للمظاهرات. في أغلب الأحيان – وليس دائماً لحسن الحظ – يكون الصحافيون العاملون في الصحافة الأجنبية، الفرنسية بالأخص نظرا لأهمية المركز، أعوان مأجورون مكلفون بالمحافظة على الغموض والالتباس في ما يتعلق بالطبيعة الحقيقية للممارسات السياسية التي تطبع الحياة اليومية في الجزائر.

ولكن عصر هيمنة المعلومة المقيدة ولّى، وهذه ضربة لمحترفي ترويج الأخبار الزائفة والمتلاعبين بالرأي العام. تعوِّض شبكات التواصل الاجتماعي بشكل كبير وفعال جداً هذا النقص في وسائل الإعلام المستقلة. العمليات المنظمة لقطع الأنترنت وابطاء سرعة تدفقه ليست إلا وسائل متخلفة وغير فعالة. عبثا تحاول المواقع الالكترونية التابعة للنظام استمالة الرأي العام لكنه مطِّلع بشكل أكبر وأفضل مما تريده الديكتاتورية. بكل بساطة، نزعت هذه الوسائل الإعلامية والأقلام المأجورة عن نفسها ما تبقى لها من مصداقية في 22 شباط/فبراير.

• في خضم ما حدث يوم 22 شباط / فبراير، هناك عنصر شديد الأهمية يستحق أن نتوقف عنده. أتحدث عن الناس الذين احتجوا على خطب الأئمة الموجهة، حتى أنَّ البعض ترك المسجد وأكمل صلاته في الخارج كما حصل في مدينة بجاية. هل تمّ كسر سياسة الضغط والتأثير بواسطة الدين؟

وسط الفراغ الأخلاقي، السياسي والثقافي، الذي خلقته ورعته الديكتاتورية، أصبح التدين عنصر ربط يمكِّن من المحافظة على التماسك الاجتماعي. يبقى الدين، وبالتالي، الملجأ الأول والأخير بالنسبة للكثيرين. روحانية الجزائريين تعبِّر أيضاً وبقوة عن الرفض لنظام -أو بالأحرى للفوضى بلا أخلاقيات – فُرض عليهم بالقوة باسم قيم يعرفها ويعترف بها كل واحد، قيم راسخة في التاريخ والعادات. لكننا لم نعد في سنوات 1980 أو 1990.

ما عاشه المجتمع من مأساة وانسداد الأفق وانكشاف الحقائق والرهانات والفاعلين، كلها أمور جعلته يتطور وينضج. أصبح المستوى العام سياسياً ونقدياً أعلى بما لا يقارن. قَوَّت التجربة التي تراكمت خلال عقد الدم والعنف والظلم وعي الجزائريين، وهي تمكِّنهم اليوم من مقاومة أفضل للأساليب الديماغوجية مهما كان شكلها ومظهرها.

ولّى عصر هيمنة المعلومة المقيَّدة وهذه ضربة لمحترفي ترويج الأخبار الزائفة والمتلاعبين بالرأي العام. تعوِّض شبكات التواصل الاجتماعي بشكل كبير وفعال هذا النقص في وسائل الإعلام المستقلة.
سعى النظام بكل لؤم، مع دعاته الدجالين وأئمته المطيعين، لاستثمار الفكر الظلامي وتوجيه الممارسات الدينية نحو التزمت والتكفير والتخلف. لكن يبدو أن حيلة تسميم العقيدة هذه لم تعطِ أكلها. فالشعب المتمرس لم يعد ينقاد بالسهولة نفسها لخطابات الحشد والسيطرة مهما كان مصدرها، ومهما كان اللباس الذي يرتديه دعاتها. لم يعد هناك ولاء أعمى ولا مرشدين روحيين فوق النقد. يحترم الجزائريون المقدّس سواء أكانوا مؤمنين أم لا، يمارسون الشعائر أم لا، ويعرفون ما يتعلق بالسياسة وضرورة تمييزه عن الأمور التي تتعلق بالروحانيات والدين.

• ماهي التبعات المحتملة لهذا اليوم المميز؟ ماذا عن الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في 18 نيسان/أبريل؟

لا يمكن استقراء المستقبل حتى وإن كان بإمكاننا عقد الكثير من الآمال على الشباب الجزائري. هناك مبادرات تنشأ على مستوى القاعدة وحلقات نقاش وتبادل ترى النور. يمكن أن يتعلق الأمر بمقدمة لإعادة تشكيل حقيقية للمشهد السياسي. ما يمكن أن نؤكده دون أن نخشى كثيراً الوقوع في الخطأ هو أن مظاهرات 22 شباط / فبراير قد وحَّدت صفوف الشعب الجزائري، بتنوعه واختلافاته، في وجه نظام صعاليك عديمي الضمير. أظهر سكان هذا البلد أمام أعين الجميع وعياً سياسياً وحسَ مسؤولية من مستوى رفيع جداً… دون أن ننسى التعبير عن التضامن الأممي مع القضية الفلسطينية خاصة. نأمل أن تستمر هذه التعبئة وأن تشكِّل ولادة لإعادة تنظيم سياسي تعددي وديمقراطي للمجتمع الجزائري، وأن تُفضي في آخر الأمر لتسوية سياسية سلمية – مع احترام القانون والحريات – للأزمة التي يعيشها الشعب الجزائري منذ زمن طويل.

خبير اقتصادي من الجزائر، عضو في  Watch Algeria